22 - 06 - 2024

وجهة نظري| ضحايا مخالفات البناء

وجهة نظري| ضحايا مخالفات البناء

دارت عجلات البلدوزر الضخمة محدثة بضجيجها العالي صخبا مزعجا، تلاشت معه صرخات عجوز مكلومة لم تفلح توسلاتها فى إيقافه، حتى حول بيتها إلى تراب. 

على أنقاض بيتها الذى كان قبل ساعات هو مأواها الوحيد، الذى تحتضن فيه صغارها ويعلم الله وحده كيف تدبر بالكاد قوت يومهم، جلست على كومة مرتفعة متكئة على عصاها شاخصة ببصرها إلى مستقبل لا تدرى معالمه.. يؤرقها القادم الغامض من الايام بلا حوائط تحمى أجساد صغارها. نظرات يملؤها الخوف، ممزوجة بكثير من الغضب على قانون، لم يأخذ بعين الرحمة أحوال البسطاء ممن لا حول لهم ولا قوة.

فى المقابل، جلس الأطفال بعيون معلقة عليها.. ينظرون بجزع.. يتوسلون أن تمدهم بشيء يطمئنهم على مصيرهم المجهول، أن ينامون أو يقضون ليلهم.. ماذا يفعلون بعدما تهدمت جدران منزلهم.. أين ينصبون أسرتهم ويشرعون فى إراحة أجسادهم بعد تعب نهار يبدو فى عيونهم ذهب بلا رجعة ؟

لا تفلح نظراتها الشاردة فى بث أى قدر من طمأنينة.. تزداد أسئلتهم الحائرة فزعا.. تنكمش أجسادهم الصغيرة يرتمون فى حضن امهم بعدما صار هو السكن الوحيد والملجأ والأمان!!.

يزاد إحساسها بالعجز.. لا يتحمل جسدها الذى وهن قبل الأوان، بعدما رحل عنها زوجها تاركا لها ثلاثة أبناء ومعاشا لايتعدى 1300 جنيه.. وشقة دفعت بالكاد أقساطها حتى لم يتبق لها سوى قسط وحيد، قبل أن يأتيها قرار الإزالة ليحول حوائطها إلى أنقاض!

لم يكن العجوز الستينى أكثر حظا منها، يضغط بقوة على أوراق تثبت بأختام النسر الممهورة عليها بأنه سدد غرامة مخالفة البناء ومع ذلك لم يرحمه التطبيق الأعمى لقانون مخالفات البناء من بلدوزر الهدم الذى انقض على حوائط منزله، مضيعا أصوات إعتراضه وشكواه وصرخته لإثبات تسديده لمخالفة البناء!

أما الشاب الثلاثينى فلم يكن يدري أن العقار الذى ورثه عن أبيه عام  98سيجر عليه كل تلك المتاعب، يعترف أنه شارك فى جزء منها عندما قام ببناء ثلاثة طوابق مخالفة عام 2013، وتم تحرير محضر مخالفة عن طابق واحد فقط بعدما نجح فى دفع رشوة لموظفى الحى للتغاضى عن طابقين والاكتفاء بتوقيع غرامة على طابق واحد فقط، لكن بعد تطبيق القانون تم القبض عليه ولم يفرج عنه إلا بعد تسديد 120 ألف جنيه، وعندما أراد السير فى إجراءات التصالح فوجئ بأن الأوراق شملت فقط الدور الرابع فقط الذى سدد عنه الغرامة ولاتشمل الدورين الأخيرين محل المخالفة!!

رابع دفع 300 ألف جنيه هى تحويشة عمره لشراء شقة فى الطابق التاسع من أحد العقارات، لم يكن يعلم أنه تم بناؤها تم بالمخالفة للقانون.. ليضطر بعد ذلك لتسديد قيمة الغرامة وحده، بعدما رفض صاحب العقار سداد الغرامة أو حتى المشاركة بجزء منها!!

ضحية أخرى، صاحبها اشترى شقة على سطح عقار، وكان من المفترض أن يتم البناء على 25 % فقط من مساحة العقار أى خمسين مترا فقط لكنه خالف لتصبح المساحة الإجمالية 200 متر، وعندما تقدم للتصالح فوجئ بمحاسبته على إجمالى المساحة بما فيها الخمسين مترا المسموح بالبناء عليها!

خامس وسادس وعاشر يواصلون إستغاثاتهم على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون ووسائل التواصل الإجتماعى من الإجراءات التعسفية والمرهقة التى يتكبدها كل من طالب بالتصالح، منها التقرير الهندسى المعتمد من مكتب إستشارى هندسى يؤكد السلامة الإنشائية لكامل العقار. والذى تتراوح تكلفته من 4 إلى 8 آلاف جنيه.. فى الوقت الذى تخصص فيه لجنة مشكلة من إدارات الأحياء تحصل على 1% من حصيلة تلك الغرامات.

ثلاثة ملايين عقار مخالف، وراء الكثير منها قصص ومأسى إنسانية، تحتاج نظرة رحمة والأخذ بالاعتبار لخصوصية وتفرد كل منها، وليس كل المخالفين مذنبون لكنهم أحيانا مايقعون ضحايا لعمليات تحايل وراءها أصحاب العقارات الذين يتقنن بعضهم فى التهرب من المسئولية والتخفى وراء آخرين، يحملون أسماء وهمية ومستعارة ليجد الضحايا أنفسهم واقعين بين سندان أصحاب العقارات من جهة والمطالبة بتحمل فسادهم وجشعهم والتصالح نيابة عنهم في جرائم ومخالفات لم يرتكبوها!!

الغريب أن يتم تطبيق القانون بكل تلك الصرامة، التى لاتخلو من قسوة واضحة، رغم توصيات لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب والتى طالبت الحكومة بمراجعة كافة الشكاوى والتظلمات مراعاة للبعد الإجتماعى والإنسانى.

ليس هذا فقط، بل سلطت الضوء أيضا على الترهل والفساد الإدارى والمالى على مدى أكثر من خمسين سنة الذى أدى لتفشى ظاهرة البناء المخالف والتعدى على الاراضى وإنتشار العشوائيات.

ومع ذلك ما زالت الحكومة تصر على تطبيق القانون بسرعة وبدون هوادة، بل ولم تمهل للمخالفين مدة أطول من التى حددتها والتى تنتهى بنهاية هذا الشهر.

ارحموا من فى الأرض، عسى أن يرحمكم من فى السماء.
-------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | إنسانية اللا عرب





اعلان